البُلبُل الذي فَقَد صوتَه في يومٍ ما فُوجئ البُلبُلْ الصغيرُ أنّه قد فَقَد صوتَه فَجأةً ، و دونَ أن يَعرِفَ ما الذي حَدَث ، فهَرَبَ منه صوتُه و ضاع .عادَ البلبلُ الصغيرُ حزيناً ، مَهموماً ، يائساً ، و أخذ يَبحثُ عن صوتِه الذي ضاع .فأخَذ
يَبحثُ في البيوت ، و المياه ، و الأعشاش ، لكنّه ما وَجَده ، فعادَ
مُنكسِراً ، مُتَحطِّماً ، لا يَهتمُّ بخُضرَةِ الأشجار ، و لا جَمالِ
السنابِل ، و لا بالأزهار .و كان حُزنُه يَشتدُّ ، إذا سَمِع
زَقزَقَةَ العصافير ، و أغاريدَ الطيور المَرِحة . فيما مضى كان البُلبُلُ
الصغيرُ صَديقاً صَميمياً لجدولِ الماءِ الذي يَمُرّ بالحقل ، أمّا الآن
فإنّ البلبلَ لا يُلامِسُ مياهَ الجدول ، و لا يَتحدّثُ معه .و
تَمُرّ الفَراشاتُ الجميلة الزاهيةُ الألوان ، فلا يُلاطِفُها كما كانَ
يَفعلُ مِن قَبل ، و لا يَلعبُ معها . لقد عادَ البلبلُ الصغيرُ حزيناً
مُتعَباً ، يَبحثُ عن صوتهِ الدافئ ، دونَ أن يَعثُر عليهِ في أيِّ مكان .
و عن طريقِ الإشارات ، سألَ الكثيرينَ من أصدقائه ، فلم يَهتَدِ أحدٌ منهم
إلى شيء ، و ظل هكذا حتى عادَ إلى الحقل ، فانطرَحَ في ظِلِّ شجرةِ
التُّوتِ الكبيرة .أخَذَ البلبلُ الحزينُ يَتذكّرُ أيّامَهُ
الماضية ، حينَ كانَ صوتُهُ يَنطلِقُ بتَغريدٍ جميل حُلو ، تأنَسُ له
الطيورُ و المياه ، و الزَوارقُ الورَقيةُ السائرةُ على الماء ، و
الأعشابُ الراضيةُ المنبسطة ، و تَفرَحُ له الثِمارُ المُعلّقةُ في
الأغصان ، أما الآن ، فقد ضاعَ منه فَجأةً كلُّ شيء .رَفَع البلبلُ الصغيرُ رأسَهُ إلى السماءِ الوسيعةِ الزرقاء ، و أخَذَ يتَطَلّعُ إلى فَوق بتضرُّعٍ و حُزن :
يا إلهي ، كيفَ يُمكنُ أن يَحدُثَ هذا بكلِّ هذهِ السُهولة ؟! ، ساعِدْني يا إلهي ، فمَن لي غَيرُك يُعيدُ لي صَوتيَ الضائع ؟حينَ
كانَ البلبلُ الصغيرُ يَنظُرُ إلى السماء ، أبصَرَ - في نُقطةٍ بَعيدة -
حَمامةً صَغيرةً ، تَحمِلُ فوقَ ظهرِها حَمامةً جَريحة ، و قد بَدَت
الحمامةُ الصغيرةُ مُتعَبة و مُنهَكة ، و هي تَنوءُ بهذا الحمل ، لكنّ
الحمامةَ الصغيرةَ كانت مع ذلك شُجاعةً و صابرة . انتَبَه البلبلُ الحزينُ
إلى هذا المنظر ، فأخذَ يُتابِعُه ، و قلبُه يَدُقُّ خوفاً على الحمامةِ
الصغيرةِ من السُقوط ، مع أنّها كانت تَطيرُ بشَجاعةٍ و إرادةٍ قويّة . و
عندما وَصَلَت الحمامةُ الصغيرة إلى نُقطةٍ قريبةٍ من شجرة التُوت ، بَدأت
الحمامةُ الجريحةُ تَميلُ عنها بالتدريج ، فأخَذَ قلبُ البُلبل يَدُقّ و
يَدُقّ .لقد امتلأ قلبُهُ بالرِقَّةِ و الخوفِ على هذهِ الحمامةِ الضعيفةِ ، التي تكادُ تَسقُطُ من الأعالي على الأرض .ولمّا
كادَت الحمامةُ الجريحةُ ، أن تَهوي كانَ البلبلُ الصغيرُ ، قد رَكّزَ
كلَّ ما في داخِله مِن عواطفِ الرحمةِ و المَحبّةِ ، و هو يُتابِعُ المنظر
. فلم يَتمالَكِ البلبلُ الصغيرُ نفسَهُ ، فإذا هو يَصيحُ بقوّة :
انتَبِهي ، انتَبِهي أيّتها الحمامةُ الصغيرة ، الحمامةُ الجريحةُ تكادُ تَسقُطُ عن ظهرِك .سَمِعَتِ
الحمامةُ صِياحَ البلبل فانتَبَهت ، و أخَذَت تُعَدِّلُ مِن جَناحَيها ،
حتّى استعادَتِ الحمامةُ الجريحةُ وضَعَها السابق ، فشكرَتْه مِن قلبها ،
و مضَت تَطيرُ وهي تُحَيِّيهِ بمِنقارِها .توقّفَ البلبل ، و بَدأ
يُفكِّر ، لم يُصدِّقْ في البداية ، لم يُصدِّقْ أنّ صوتَهُ قد عادَ إلَيه
، لكنّه تأكّدَ مِن ذلك لمّا حاوَلَ مرةً ثانية ، فانطلَقَ فَرِحاً
يُغرِّدُ فوقَ الشجرة ، رافعاً رأسَهُ إلى السماءِ الزَرقاء ، و قد كانَ
تَغريدُه هذهِ المرّة أُنشودَة شُكرٍ لله على هذهِ النِعمةِ الكبيرة .